هذا من علم السياسة المُحرِج لكثيرين.
الوطنيّة في أصلها طائفيّة معدّلة. فهي تصوُّر جماعي يقوم على تحديد النَّحْن من الْهُم، مع استبدال اللاهوت بالأيديولوجيا، والكهنة بالمثقفين، والوعّاظ بالإعلاميين، والعبادة بالشعارات، والكفر بالخيانة، والانتماء الروحي بالتشابه العرقي أو اللغوي. هذه ليست مقارنة تسفيه بل حقيقة تاريخية يعرفها الأنّاسون جيداً: التديُّن أصل كل ثقافة وسياسة وأخلاق وقانون في هذا العالم.
وغاية الوطنيّين أن يكون الوطن هو الطائفة الأمّ التي تحضن باقي الطوائف، والتديُّن الأعلى الذي تشتغل عنده أنماط التديُّن.
وهناك الوطني المعتدل، الذي يحترم جميع الهويات ويريد التمسّك بجميع المبادئ، فلا يُلهِم كثيرين ولا يقاتل تحت لوائه كثيرون، ولا ينجح إلا على الورق وفي كتب التاريخ الزائف. وهناك الوطني المتطرّف، وهذا هو الذي يبني الدولة، وهو يعظّم الوطن لذاته ويجعل سكّانه بشراً استثنائيين فوق البشر، فيبتعد عن التفكير البارد نحو الرطانة الشعبية الساخنة. وهو إن اعتدل فلأسباب يفرضها الواقع العملي لا المنطق النظري.
ولا تكون الأفكار السياسية الظافرة إلا ساخنة، ولا تفرض نفسها على الآخرين إلا بالروح التنافسية العالية. ذلك أن الهوية أقوى من الحرية، بل إن الحرية لا تكتسب مخالبها ولا تدافع عن نفسها إلا حين تنغرس في هوية مقاتلة. إذ ليس بناء الأمة فعلاً أنيقاً وناعماً كصالون باريسي، بل هو شغف وشغب ومتاريس وخطباء، وهو الكثير الكثير من التحشيد والتطبيل والتنازع والتقاتل والإقصاء والصهر القسري والتربية العقائدية. وكل ذلك بحاجة لحوامل إثنية أو طبقية - أي فئات اجتماعية متجانسة - جاهزة للمعركة.
أما الفرد فهو اختراع قانوني، والمواطنة مبدأ حوكمي، والدستور دستة تجريدات، ولا شيء من هذا ملهِم للناس إلا حين يتّصل بعمق وجدانهم. ومن يؤمن بالفرد والمواطنة والدستور إيماناً خلاصياً، ثم لا يتكلم لغة الوجد الديني أو الحماس الأيديولوجي الشبيه به، فلا يَلومَنّ إلا نفسه.
وإنما لهذا السبب شهدنا اجتياح اليمين الشعبوي كافة الديمقراطيات الليبرالية، فانتصار الديموس (عامة الشعب) على الليبر (الإنسان الحر) طبيعي بكل معنى الكلمة: متوقَّع، فِطري، قابل للدراسة العلمية. وليست مشكلة الوسط الليبرالي المعتدل أن العنيفين يحاصرونه من الجهات الأربع، بل أن العنفوان - ومشتقّاته التي تصنع هويات - هو الوضع الخام الأقرب لفطرة البشر.
شهدنا هذه الحكاية من قبل: سوريا الديمقراطية البرجوازية في الخمسينات تبتلعها سوريا الديمقراطية الشعبية في الستينات. حكّام ناعمون في منطقة خشنة، هزمتهم جهات طموحة ومنظَّمة وممتلئة بالأحلام والأحقاد.
واليوم، الليبرالي السوري والاشتراكي السوري كلاهما متديّن بشكل غير حقيقي، وطائفي بشكل غير حقيقي، ويريد - إرادة غير حقيقية - بناء دولته الأيديولوجية والمعتدلة معاً. وكلاهما اليوم في معركة مع متديّنين حقيقيين.