الصيام ليس امتناعاً عن الطعام أو تمريناً على الصبر والامتنان. بل هو فعل من أفعال المعرفة، يكتسب من يمارسونه علماً خاصاً من خلال الشعور الجسدي والإيقاع الزمني ودفع الأفكار نحو أقصاها.
تزامن رمضان 1446 مع الصوم الكبير في 2025، وعاش ملايين الصائمين والصائمات كيفية انتقال المعاني المقدَّسة بالتجربة والإحساس لا بالكلام المباشر. وسواءً في الهمّة الجماعية الصامتة في العشر الأواخر، أو في استحضار جسد المسيح في عيد القيامة، ثمة حقيقة منسيّة هنا: اللغة المقدَّسة لا تحب العيش على الورق.
لغة وظيفتها الدهشة
قبل أن يتعلّم البشر التواصل بالتجريد المنطقي، كان تواصلهم فعلاً من أفعال الدهشة. كانت أهم عباراتهم طَقَسية لا دلالية، وظيفتها تحفيز الجسد وتهدئة الذهن وتعميق الانتماء. وما تزال التراتيل الدينية والأوراد الجماعية تحفظ لنا ذلك الشكل الإيقاعي للّغة، حيث تمتزج الأنفاس بالأصوات، وحيث تكون المشاعر في قلب كل كلمة. كانت قوّة اللغة قدرتها على استحضار الانتباه الكامل للبشر - وغيرهم من الكائنات - فيما كان نقل المعلومات مسألة ثانوية.
بالمقابل، النزعة النصوصية في ثقافتنا المعاصرة تمنح الأولوية للتعامل البصري مع اللغة. هكذا تفقد النصوص المقدّسة - من القرآن إلى الڤيدا إلى المزامير - الكثير من ذاتها نتيجة القراءة السالبة بالعينين. إن كل واحد من هذه النصوص مِعمار صوتي هائل، تَشكّل عبر العصور من خلال الآذان والحناجر والأجساد، واكتسى قوّته من خلال النغم والوتيرة والتكرار. قراءة معمار كهذا بصمت، ولا سيما بوساطة لغة ترجمة، هو أشبه بدراسة نوطة موسيقية من دون سماع اللحن: شيء أساسي من الطاقة العاطفية سيتبخّر.
أعماق غير قابلة للترجمة
ليس هذا نقداً للترجمة من حيث المبدأ، بل إدراك للقيود التي يتحرّك ضمنها المترجمون. فصعوبة نقل نصّ من لغة إلى أخرى لا تتعلق بالكفاءة اللغوية والقدرة التعبيرية، بل بتفاوت العوالم الأدبية والنفسية بين اللغتين. فالمعنى ليس مجرداً، بل هو مسكون بأهله، يتغذّى بالطقوس والسياقات والمعرفة الاجتماعية المتراكمة. لذلك لا تحبّ اللغات المقدّسة اختزال معانيها في عبارات جديدة، لأنها في أصلها «أقوال أدائية»، لا ينبثق معناها إلا من خلال الممارسة.
هذا ما تسمّيه العربية «الخشوع»، والذي يؤدّيه المترجمون بمفردات مثل «الرهبة» أو «التبتُّل» أو «الحضور». لكن هذه المرادفات لا تفي الثِّقَل الوجودي للكلمة حقّه. فالخشوع لحظة انتباه جسدي وروحي مذهل، وهو يعني في الصلاة مثلاً سكينة تامة تعبّر عنها طريقة الوقوف والنطق والنظر وكل الأصوات الداخلية للنفس. كلمة الخشوع مثال على ما يسمّيه الفلاسفة «المفاهيم الكثيفة»، أي تلك الذي يمتزج فيها الوصف بالعاطفة بالأهمية بالأخلاق.
سطوة الثقافات العتيقة
تذكّرنا المفاهيم الكثيفة بعوالم ما قبل اختراع الكتابة، حين كان التواصل حالة تسْري في كامل الجسد لا معلومات تتحرّك بين الدماغ والدماغ. كان التناقل الشفاهي يحفظ المعرفة عبر إشغال كافّة الحواسّ، ولم تكن اللغة رموزاً للفكّ والتركيب بل مناسبات للسماع والوجد الجماعي.
جاءت الكتابة والطباعة بالدقة والتوثيق والتراكم المعرفي، ولكنها عدّلت من التجربة اللغوية لأسلافنا. فما كان منطوقاً وتشاركياً أصبح شيئاً فشيئاً مسطوراً وفردانياً. وقد تأثرت التقاليد الدينية أكثر من غيرها بذلك، إذ تحوّلت نصوصها المقدّسة من أذكار وترانيم تخضع لها القلوب والعقول إلى تُحَف وآثار خاضعة للتمحيص الأدبي والتاريخي.
لا تنبع أهمية الأذكار والترانيم من حاجات أو جماليات الحنين إلى الماضي، بل من الحقيقة الفلسفية التي تذكّرنا بها حتى اليوم: فهم العالم وإدراك الواقع ليست مسألة مذهب فكري قابل للتحليل أو التفنيد العقلي، بل معرفة يكتسبها المرء من خلال الممارسة، أي التجمُّع، والتجرُّد، والتعوُّد، والتفكُّر المتواصل في ملكوت السماوات والأرض.